بقلم/
د. منال متولي
م.أستشاري رئيس لجنة البيئة بنقابة المهندسين
م. محمود حجاج
بينما يواجه العالم تحديات استنفاد الموارد وتدهور البيئة وتغير المناخ، أصبح النموذج الاقتصادي التقليدي القائم على “الاستخراج، الإنتاج، التخلص” غير مستدام. يعتمد هذا النموذج بشكل كبير على استخراج الموارد المحدودة، والإنتاج الضخم، والتخلص من النفايات، مما أدى إلى أضرار بيئية كبيرة وكفاءة اقتصادية ضعيفة. في هذا السياق، ظهر مفهوم الاقتصاد الدائري كنهج تحويلي يهدف إلى تقليل النفايات، والحفاظ على الموارد، وخلق نماذج أعمال مستدامة، مع التركيز على إعادة التدوير كجزء أساسي من الحل.
**ما هو الاقتصاد الدائري؟*
الاقتصاد الدائري هو نظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على النفايات والاستمرار في استخدام الموارد. على عكس الاقتصاد الخطي الذي يتبع مسارًا بسيطًا من استخراج الموارد إلى التخلص منها كنفايات، يسعى الاقتصاد الدائري إلى إغلاق الحلقة من خلال تصميم المنتجات والعمليات والأنظمة التي تعظم قيمة الموارد مع تقليل النفايات، وتعزيز إعادة التدوير. في الاقتصاد الدائري، يتم الاحتفاظ بالمواد والمنتجات في الاستخدام لأطول فترة ممكنة من خلال إعادة التدوير، وإعادة الاستخدام، وإعادة التصنيع، والتجديد، مما يخلق نظامًا ترميميًا ومتجدّدًا بطبيعته.
**المبادئ الأساسية للاقتصاد الدائري**
1. **تصميم منتجات خالية من النفايات والتلوث**
– في الاقتصاد الدائري، يتم النظر إلى النفايات على أنها عيب في التصميم. يتم تصميم المنتجات مع أخذ دورة حياتها الكاملة في الاعتبار، مما يضمن أن المواد يمكن استردادها وإعادة استخدامها وإعادة تدويرها بسهولة في نهاية حياتها. من خلال إعطاء الأولوية لكفاءة الموارد واستخدام المواد المتجددة وغير السامة، يمكن تقليل النفايات والتلوث بشكل كبير أو حتى القضاء عليهما.
2. **الحفاظ على المنتجات والمواد قيد الاستخدام**
– يشجع الاقتصاد الدائري على إعادة الاستخدام، والإصلاح، والتجديد، وإعادة التدوير للمنتجات والمواد. هذا لا يزيد فقط من عمر المنتجات ولكنه يقلل أيضًا من الحاجة إلى المواد الخام الجديدة، مما يحافظ على الموارد. تتبنى الشركات بشكل متزايد نماذج مثل المنتج كخدمة، حيث يستأجر العملاء المنتجات بدلاً من شرائها، مما يضمن بقاء المنتجات في الدورة.
3. **تجديد النظم الطبيعية**
– يسعى الاقتصاد الدائري إلى تحسين البيئة بشكل فعال. من خلال استعادة وتجديد النظم الطبيعية، مثل تحسين صحة التربة من خلال الممارسات الزراعية المستدامة أو تعزيز التنوع البيولوجي، يساعد الاقتصاد الدائري في خلق كوكب أكثر مرونة واستدامة.
**كيف يقلل الاقتصاد الدائري من النفايات**
تم تصميم الاقتصاد الدائري لتقليل النفايات في كل مرحلة من مراحل دورة حياة المنتج، مع تعزيز إعادة التدوير:
1. **استخراج الموارد**: من خلال إعطاء الأولوية لاستخدام المواد المعاد تدويرها أو المتجددة، يتم تقليل الحاجة إلى استخراج الموارد الجديدة، مما يؤدي إلى تقليل التأثير البيئي.
2. **الإنتاج**: يتم تحسين عمليات التصنيع في الاقتصاد الدائري لاستخدام موارد أقل، وإنتاج نفايات أقل، وتوليد انبعاثات أقل. تتبنى الشركات تقنيات الإنتاج الأنظف، وتستخدم المواد الناتجة عن النفايات كمدخلات، وتقلل من استخدام الموارد مع تعزيز عمليات إعادة التدوير.
3. **الاستهلاك**: في الاقتصاد الدائري، يتم تصميم المنتجات لتكون متينة، قابلة للإصلاح، قابلة للتحديث، وقابلة لإعادة التدوير، مما يقلل من الحاجة إلى الاستبدال المتكرر. يشجع المستهلكون على تبني الأسواق المستعملة والخيارات المشتركة مثل التأجير، مما يقلل من النفايات.
4. **نهاية دورة الحياة**: في نهاية عمر المنتج، يركز الاقتصاد الدائري على إعادة التدوير واستعادة المواد. بدلاً من أن ينتهي بها المطاف في مكبات النفايات، يتم تفكيك المنتجات واستخلاص المواد القيمة وإعادة إدخالها في دورة الإنتاج.
**الحفاظ على الموارد من خلال التدوير**
يوفر الاقتصاد الدائري حلاً لندرة الموارد المتزايدة من خلال تعزيز الحفاظ على الموارد وإعادة التدوير عبر استراتيجيات متعددة:
1. **كفاءة المواد**: من خلال تصميم المنتجات التي تتطلب مواد أقل أو استخدام مواد بديلة ومتجددة، يمكن للشركات الحفاظ على الموارد وزيادة عمليات إعادة التدوير. على سبيل المثال، أدت تقنيات تقليل الوزن في صناعة السيارات والتعبئة والتغليف إلى تقليل كمية المواد الخام اللازمة بشكل كبير.
2. **أنظمة مغلقة الحلقة**: في النظام المغلق، يتم إعادة تدوير المواد بشكل مستمر في الاقتصاد. يقلل هذا من الطلب على المواد الخام الجديدة ويقلل من استخراج الموارد المحدودة. تعتبر أنظمة الحلقة المغلقة فعالة بشكل خاص في الصناعات مثل الإلكترونيات، حيث يمكن إعادة تدوير المعادن النادرة وإعادة استخدامها.
3. **التكامل الصناعي**: يشمل هذا النهج تعاون الصناعات المختلفة لاستخدام المنتجات الثانوية لبعضها البعض كمدخلات، مع التركيز على إعادة التدوير. على سبيل المثال، يمكن استخدام الحرارة المهدرة من مصنع واحد لتشغيل مصنع آخر، مما يقلل من استهلاك الموارد بشكل عام.
**خلق نماذج أعمال مستدامة**
يقدم الانتقال إلى الاقتصاد الدائري أيضًا فرصة للشركات لتطوير نماذج أعمال مبتكرة ومستدامة يمكن أن تؤدي إلى ربحية طويلة الأمد ومرونة:
1. **المنتج كخدمة**: يغير هذا النموذج التركيز من بيع المنتجات إلى تقديم الخدمات. على سبيل المثال، بدلاً من بيع المصابيح، يمكن للشركة أن تقدم خدمة الإضاءة، حيث تحتفظ بملكية المصابيح وتكون مسؤولة عن صيانتها وإعادة تدويرها. هذا يحفز الشركة على إنتاج منتجات طويلة الأمد وفعالة من حيث الطاقة.
2. **الاستهلاك التعاوني**: يقلل الاقتصاد التشاركي، حيث يشارك الأفراد الوصول إلى السلع والخدمات، من الحاجة إلى الملكية ويزيد من استخدام الموارد. يعد تقاسم السيارات، ومكتبات الأدوات، وخدمات تأجير الملابس أمثلة على كيفية ازدهار الشركات من خلال تسهيل الوصول المشترك بدلاً من الملكية.
3. **الخدمات اللوجستية العكسية**: تستثمر الشركات بشكل متزايد في الأنظمة التي تسترجع المنتجات في نهاية عمرها، بهدف إعادة التدوير. يمكن بعد ذلك تجديد هذه المنتجات أو إعادة تصنيعها أو إعادة تدويرها، مما يخلق تدفقات جديدة من الإيرادات ويقلل من النفايات.
4. **سلاسل التوريد الدائرية**: تعيد الشركات التفكير في سلاسل التوريد الخاصة بها لدمج المبادئ الدائرية. يشمل ذلك تأمين المواد بشكل مستدام، واستخدام الطاقة المتجددة، وتصميم المنتجات للتفكيك السهل وإعادة التدوير.
التحديات والفرص
على الرغم من الفوائد العديدة للاقتصاد الدائري، فإن تنفيذه ليس بدون تحديات. يتطلب التحول من النموذج الخطي إلى الدائري تغييرات كبيرة في تصميم المنتجات، وعمليات التصنيع، وسلوك المستهلكين. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تفضل اللوائح والحوافز الاقتصادية الحالية النموذج الخطي، مما يجعل التحول أكثر تعقيدًا.
ومع ذلك، فإن الفرص هائلة. يمكن للشركات التي تتبنى الممارسات الدائرية، مثل إعادة التدوير، تحقيق وفورات في التكاليف، وتقليل بصمتها البيئية، واكتساب ميزة تنافسية في سوق يهتم بشكل متزايد بالاستدامة. علاوة على ذلك، بدأت الحكومات والمنظمات الدولية في دعم المبادرات الدائرية من خلال السياسات والتمويل والشراكات.
يمثل الاقتصاد الدائري تحولًا جذريًا في كيفية تفكيرنا في الإنتاج والاستهلاك والنفايات. من خلال إغلاق الحلقة والحفاظ على الموارد قيد الاستخدام لأطول فترة ممكنة، يقدم الاقتصاد الدائري بديلاً مستدامًا للنموذج الخطي التقليدي. يقلل من النفايات، ويعزز إعادة التدوير، ويحافظ على الموارد، ويخلق نماذج أعمال مبتكرة تكون مربحة ومسؤولة بيئيًا في نفس الوقت. مع تقدمنا نحو مستقبل أكثر استدامة، سيلعب الاقتصاد الدائري دورًا حاسمًا في ضمان أن يكون النمو الاقتصادي منفصلًا عن تدهور البيئة، مما يمهد الطريق لعالم أكثر مرونة واستدامة.