كان سعد باشا زغلول في الخامسة والعشرين من عمره حين نشبت الثورة العرابية عام 1882، وقد انخرط فيها شابا يلفحه لهيب الثورة مع استاذه وقدوتة الإمام محمد عبده يطعنان الاستبداد للخديوي ويطالبان بحكم شوري دستوري وتعميق النزعة الوطنية والقضاء على التأثير الأجنبي، وكان لهزيمة الثورة العرابية تأثيرا كبيرا على التلميذ والأستاذ معا، حيث خلقت الفجوة بين القوة البريطانية من جهة، وقوة جيش عُرابي والقوى الاجتماعية الشعبية المؤيدة له من جهة أخرى، صدمة لا تقل في تأثيرها عن صدمة الهزيمة أمام الهجوم الاستعماري الفرنسي على مصر بقيادة نابليون عند مطلع القرن ذاته.
بعد هزيمة الثورة العُرابية وانتصار الاستعمار البريطاني، فُصِل سعد زغلول من الوظيفة الحكومية التي شغلها، وحُلَّت جريدة “الوقائع”، ونُفِي الشيخ محمد عبده إلى بيروت وبعد ذلك بفترة وجيزة اعتُقِل سعد زغلول بتهمة تشكيل خلية مقاومة تُسمى “جمعية الانتقام”، التي سعت إلى القصاص للشهداء المصريين الذين سقطوا نتيجة العدوان، ومُعاقبة كل مَن ساعد على دخول البريطانيين إلى مصر وعلى رأسهم الخديوي توفيق.
وقد كان محمد عبده هنا بالطبع بالمنفى يدفع ثمن مساندته لحركة عُرابي، فيما كان سعد زغلول محبوسا يدفع ثمن صداقته للامام محمد عبدة ومساندته لعرابي أيضا.
بعد انكسار الحركة العُرابية بوصفها أول حركة تَحرُّر وطني في التاريخ المصري والعربي المعاصر، ووقوع مصر تحت هيمنة الاستعمار، تغيَّرت تحت أثر الصدمة رؤية الشيخ محمد عبده للعالم ومعه مَن تبعه من تلامذته، “فقد تبيَّن لهم أن القوى التقليدية في معظم بلدان العالم لم تنجح في مواجهة الاستعمار، بمعناه الضيق (الاحتلال الأجنبي) أو بالمعنى الواسع (التحديث العنيف المفروض من أعلى سواء كان احتلالا أجنبيا أو استبدادا محليا)، يستوي في ذلك القوى التقليدية المسلحة مثل التحالف القبلي الذي قاده عمر المختار في ليبيا أو القوى المجتمعية الأهلية كفلاحي مصر طوال القرن التاسع عشر”.
هنا تحديدا أتى التحوُّل الأهم في المجتمع المصري وهو أن يُقاوم الاستعمار من الداخل باستخدام منطق الحداثة وبأسلحتها، ومن هنا بات مفهوم النصر الجديد مرهونا بالقدرة على انتزاع الدولة الحديثة من السيطرة الخارجية
وكانت تلك الرؤية واحدة من رؤيتين تدافعتا داخل الحركة الوطنية بعد الهزيمة، والتي رأت أن التخلف والفساد والخديوي هما المشكلة، وأن المشروع التحديثي للاستعمار “بَنَّاء” في مُجمله، ويساهم في الوقت نفسه، في تقوية “المجتمع المصري” لتفكيك الاستبداد.
سعد زغلول أحد وجوه التيار الوطني الأول الذي رأى أن الخديوي سبب البلاء والهزيمة، وأنه يجب التخلُّص منه أولا والمطالبة بالدستور والحياة النيابية والديمقراطية
وقد رأى “محمد عبده” الذي تبعه “سعد زغلول” أن، القوى الوحيدة التي تستطيع، أن ترث الاستعمار، وأن تقود المجتمع المصري التقليدي إلى الحداثة السياسية، هي “طبقة كُبار الملاك” التي تشكَّلت نتيجة لمعاهدة 1840 بخصخصة الأراضي المصرية، وظهور طبقة محلية من الأعيان وكبار المُلاك.
لم تكن تلك الفئة من الفلاحين بالمعنى المعروف، لكنهم كانوا مصريين وطنيين بالمعنى الحديث، لديهم مقدرة على تنظيم أنفسهم والتحدُّث باسم أغلبية الشعب المصري
وشكَّلت تلك الطبقة نواة وحجر أساس المجال السياسي المصري الحديث، حيث أظهرت وعيا أخذ يتزايد بمرور الوقت بمصالحها، ودخلت في موجات من التفاوض والنضال للتخفيف من وطأة الاستبداد الخديوي وحكمه المُطلق المدعوم من السلطنة العثمانية. وقد جاءت الثورة العرابية بوصفها أول حركة وطنية ضد الاستبداد لتصبح ذروة هذه المرحلة من تاريخ التحديث في مصر
في تلك الحقبة التاريخية التي أعقبت الاحتلال البريطاني، وداخل هذا المشروع السياسي المصري، وبسبب ذكائه الخاص ومهاراته في الخطابة، بدأ سعد زغلول صعوده السياسي سريعا، وسرعان ما كوَّن دائرة من الأنصار في صفوف طبقته الاجتماعية والسياسية
ودفع التحديث المصري السياسي والقانوني إلى الأمام.
نبذة عن الكاتب/
شريف الاسواني منسق عام شباب اسوان والأمين العام المساعد لأمانة الشباب المركزية بحزب العربي الديمقراطي الناصري ومؤسس ورئيس كيان شباب الجنوب